يبدو أن أحد أطماع الإنجليز إبان الحرب العالمية الأولى كان احتلال معقل الأتراك العسكري الواقع في بئر السبع والذي كان الحصن الحصين لجيش تركيا في جنوب فلسطين وقاعدةً لهم. فبمجرد سقوط بئر السبع كانت هذه نهاية الوجود التركي في منطقة الجنوب. وبعد أن احتل الإنجليز مصر عام 1882 سرعان ما توجّهت أنظارهم وأطماعهم إلى تلك المدينة من أجل ضرب مركز الأتراك العسكري والإداري هناك.
تنظَّم الأتراك لصدّ الخطر الإنجليزي القادم إلى بئر السبع بمساندة بعض مؤيديهم من مشايخ البدو الذين أرسلوا أفراد قبائلهم لمحاربة الانجليز دون جدوى- كما ذكر عارف العارف في بعض مصادره. إحتل الإنجليز إحدى أهم معاقل الأتراك وهي 'العقبة' في حزيران عام 1917 بمساندة الشريف حسين موجهين غاراتهم إلى عاصمة الجنوب بئر السبع.
وصلت قوات الجنرال ادموند اللنبي إلى مشارف بئر السبع واحتلتها في 31-10-1917 في تمام الساعة السادسة مساءً مما أدى إلى انكسار شوكة الأتراك وانسحابهم. هكذا كانت بئر السبع أول مدينة يحتلها البريطانيون في فلسطين في طريقهم إلى القدس التي دخلها اللنبي سيراً على الأقدام من باب يافا.
سقوط بئر السبع تحت الانتداب الانجليزي فتح صفحة جديدة في تاريخ النقب, فقد استمرت بئر السبع لتكون مقرّاً لهم لتلعب دوراً هاماً كعاصمة القضاء الجنوبي والمركز الإداري لعامة عرب النقب.
نهجَ الإنجليز سياسةً مغايرةً تجاه عرب النقب عمن سبقهم من الأتراك الذين لم يُفلحوا ببسط السيطرة على أهل الصحراء. لذا لجأ الإنجليز إلى سياسة جديدة تهدف إلى حكمهم بشكل غير مباشر بواسطة تقوية مراكز شيوخ القبائل وخرط البدو في أنظمة الدولة المختلفة مثل توليتهم مناصب مرموقة في إدارة بلدية بئر السبع وغيرها. ومن أمثلة ذلك أن بعض مشايخ البدو أصبحوا رؤساء لبلدية بئر السبع مثل الحاج علي العطاونة وحميد باشا الصوفي والشيخ فريح أبو مدين, تاج الدين شعت من غزة وغيرهم.
بعد أن احتل الإنجليز بئر السبع قاموا بعدة تنظيمات جديدة مثل تأسيس محكمة العشائر وإرساء دعائمها, وتعيين قضاة من مشايخ النقب لفض الخلافات العشائرية, فقد تكونت هذه المحكمة في بادئ الأمر من ستة عشر قاضياً ومركزها في بناية السرايا، إضافةً إلى تعيين عارف العارف الفلسطيني الشهير كقائم مقام بئر السبع لمدة عشر سنوات بين الأعوام 1929-1939.
تقرَّب الإنجليز من مشايخ البدو وحاولوا أن يفهموا حياتهم, كان الإنجليز شديدي الحذر أن لا يتدخلوا في شئون القبائل الداخلية وعدم المس بملكية أراضيهم. فقد اعترفوا بملكية البدو على أراضيهم دون تسجيلها, زيادةً على ذلك أنه في منطقة بئر السبع لم يطلب الإنجليز من البدو تسجيل أراضيهم. وكان بعض البدو يدفع الضرائب للانجليز خاصة أهالي غزة الذين قطنوا في المدينة وعملوا في التجارة، مما حدا بالإنجليز مطالبتهم بدفع الضرائب بمجرد مكوثهم في المدينة كما ذكر اللورد اكسفورد. بالإضافة إلى البدو, سكن مدينة بئر السبع أفراد من الخليل, والمجدل, وغزة, والقدس.
وفي مجال العمل الوطني برز مشايخ النقب بلقائهم الحاج أمين الحسيني عام 1935 في ديرة الشيخ ابراهيم الصانع. وفي هذا اللقاء تم أخذ ميثاق مشايخ النقب على عدم بيع أراضيهم للمستوطنين الجدد من اليهود. هذا بالإضافة إلى اشتراك بعض مشايخ النقب في تأسيس الحزب العربي الفلسطيني وحضور الاجتماع التأسيسي في القدس كما ذكرت الموسوعة الفلسطينية، مثل الشيخ إبراهيم الصانع, وحسين أبو ستة وآخرين. كما كان هناك تمثيل لمشايخ النقب في المحادثات السرية مع الإنجليز برزت فيها مشاركة الشيخ فريح أبو مدين. وقد ركّز الشيخ إبراهيم الصانع، كما ذكر بيير وحنينا بورات، مِراراً على عدم بيع الأراضي والتفاف القبائل حول بعضها البعض في ذلك الوقت العصيب.
لكن لعل أبرز خطوة نهجها الإنجليز تجاه عرب النقب كان خرطهم في الجيش لأداء مهام مختلفة وتاسيس 'الهجانة'- راكبي الإبل من البدو- لأداء مهام بوليسية وعسكرية مختلفة. جزء من الهجانة خدم أيضاً كبوليس لاسلكي في النقاط العسكرية التي بناها الإنجليز في الثلاثينات والأربعينات. هذا ما أكده لي الحاج سليمان اصبيح أبو ربيعه الذي خدم في نقطة أم رشرش (إيلات) كبوليس لاسلكي في المقابلة التي أجريتها معه. ذكر أبو ربيعة بعض هذه النقاط منها: عسلوج, عوجة الحفير, كرنب, راس زويرة, وادي غمر, أم رشرش, العمارة, الجمامة, القسيمة, الخلصة, عين حصب, عين غديان وتل الملح. كما كانت هناك مجموعات من البدو عملت كقصاصي أثر لأداء مهام حدودية مهمة للإنجليز.
محطة شرطة الهجانة غربي رهط
أدى مشايخ البدو مهام تنظيمية هامة إبان الحكم الإنجليزي, فقد اجتمعوا مرّاتٍ عديدة في الأردن وسينا والنقب من أجل البت في حل المشاكل الداخلية ووقف الاقتتال بين القبائل. وإبان دراستي في لندن وجدت وثائق عديدة بعثها مشايخ البدو إلى حكومة الانتداب البريطاني من أجل البت في أمور القبائل المختلفة. إحدى هذه الوثائق الهامة التي حصلت عليها كُتبت عام 1937 على يد مشايخ النقب وذُيلت بختم الشيخ عزات العطاونة. طالب المشايخ حكومة الانتداب كما جاء في هذه الوثيقة عدم المس بملكية أراضيهم والاعتراف بها بموجب العادات المتعارف عليها عند البدو وعدم تسجيلها، والتخفيف من دفع الضرائب، وعدم المساومة على الأرض وبيعها, والمطالبة بفتح مدارس لأبناء البدو في مناطق بير السبع.
صورة لوثيقة الشيخ عزات العطاونة
بقي الإنجليز على هذه الحال حتى أيار من العام 1948 عندما انسحبوا من البلاد تاركين وراءهم منطقة نفوذهم الذي دام ما يقارب ثلاثة عقود.
يذكر أن ثورة عامة سادت البلاد بين الاعوام 1936-1939 وجد فيها الانجليز صعوبات جمة في السيطرة على البلاد, إذ أن فصائل الثوار من البدو وغيرها سيطرت على بئر السبع لفترة وجيزة. في عام 1938 تمكّن الثوار بقيادة عبد الحليم الجولاني (الملقب بأبي منصور) من احتلال بئر السبع وطرد الحامية البريطانية منها. ذكر عارف العارف في يومياته التي اطلعتُ عليها في أرشيف جامعة أكسفورد أن البدو رفضوا قبول الكتاب الأبيض وذلك أثناء الزيارة التي قام بها المندوب البريطاني الأعلى إلى قبيلة الترابين في النقب في حزيران عام 1939. أما قبيل انسحاب الانجليز من المدينة في 14-5-1948, فقد اجتمع الانجليز بمشايخ النقب في بئر السبع لينهوا فترة استعمارهم لهذه المنطقة.